صلاح أحمد إبراهيم.. شاعر الإنسانية والوطن

مدخل:
عيناك اطهر بركتين من البراءة..نزل الضياء ليستحم بها..فألقى عند ضفتها رداءه..الفتنة العسلية السمراء..والعسل المصفى والهناءة..وهناك اغرق نفسه.
النص:
هي مسارب العشق الأبدي يسلكها صلاحا كفاحا في حضرة أم درمان القصة…قصة نسجت خيوطها خواتيم العام 1933م…حينها خرج صلاح احمد إبراهيم إلي الدنيا؛قلادة على جيد القصيدة العاطل ونفحة من نفحات الشعر و الأدب الرفيع وهكذا درجت أم درمان سليلة السيف والقلم والفن البديع مادةً السودان بخيرة بنيه.
(ورفعت رأسي من جحور كآبتي
وأدرت عيني في المكان
وكنت أنت قبالتي
عيناك نحوي تنظران
عيناك … وأخضر المكان
وتسمرت عيناي في عينيك
ماعاد المكان أو الزمان
!! عيناك بسْ
ومسكت قوس كمانتي
عيناك إذ تتألقان
عيناك من عسل المفاتن جرتان
عيناك من سور المحاسن
آيتان
عيناك مثل صبيتين
عيناك أروع ماستين)
تخرج صلاح أحمد إبراهيم في كلية الآداب جامعة الخرطوم…عندها تفتقت مواهب الرجل وبانت إتجاهاته..فأتخذ من اليسار موئلا…وعرف كرائد من رواد مدرسة الغابة والصحراء…أوانئذ تماهت السياسة مع الأدب لتضرب سماء البلاد موعداً مع أحد أقمارها المنيرات ورموزها البازخات.
(العربي حامل السـوط المشـل للجمال.. شـكال كل قارح
ملاعب السـيوف والحراب
حلَّ على بادية السـودان
كالخريف.. بالسـنة والكتاب
خرَّب سـوبا .. وأقام في أنقاضها ” سـنار ”
والأخرى سـوارها ” تيراب ”
يحمل في رحاله طموحه ولوحه
وتمرتين في جراب وشـجر الأنسـاب).
ولئن شهد العام 1959م ميلاد غابة الأبنوس أولى دواوينه الشعرية؛فقد عرف العام نفسه. مولد لغة شعرية مائزة عن كثير من أشعار ذلك الزمان ولغاته..فقد برع صلاح في صياغة تراكيب شعرية تأتزر إزار الصبغة السودانية الأصلية..لعلها ميزة حدت بالناقدة الفلسطينية سلمي الجيوسي أن تقول : إن صلاح والمجذوب قد فتحا الباب للشعراء من بعدهم ليكون الشعر أقرب للروح السودانية .
(فرشت عند هجليجة فولها والنبق
و اتاها الصغار
بعد طول انتظار
ملأوا ظلها ضحكا و غبار
يتدافر جمعهم حولها و بهم لم تضق
قلبها مؤتلق.. إنها الحاجة).
كثيرا ما حشد صلاح لغته الشعرية بألفاظ شديدة الوغول في بحبوحة البيئة السودانية مديدة القوام…فخرجت غضبة الهبباي ومحاكمة الشاعر للسلطان الجائر ونحن والردى..دواوين أخضرت بها ساحات المكان وازدهت بها ساعات الزمان ولم تزل..فتنة هوجاء أبدعتها روح عبقرية بأزميل فدياس؛وتل من مرمر..وتلك لوحات تسفر ضياءً على أرفف المكتبات؛وتأتلق بهاء على هامة الأغنيات…فكانت الطير المهاجر تميمة سمار المنافي وأنيسة غرباتهم.
(وكان تعب منك جناح
في السرعة زيد
في بلادنا ترتاح
ضل الدليب أريح سكن
فوت بلاد وسيب بلاد
وإن جيت بلاد
وتلقى فيها النيل
بيلمع في الظلام
زي سيف مجوهر
بالنجوم من غير نظام
تنزل هناك وتحيي
ياطير باحترام
وتقول سلام
وتعيد سلام
على نيل بلادنا
وشباب بلادنا
ونخيل بلادنا)
ومثل عطر إفتضحه شدو المغنين..تخطر أغنية مريا… رسول العشق المتبتل في محاريب الجمال…تمثال مكبر في نفس مقاييسها…هى لوحة جملتها غنائية حمد الريح بروعة لا تفسر.
(أنا من إفريقيا صحرائها الكبرى وخطِّ الإستواءْ
شحنتْني بالحراراتِ الشُموسْ
وشوتني كالقرابينِ على نارِ المجُوسْ
لفحتني فأنا منها كعودِ الأبنوسْ
و أنا منْجمُ كبْريت سريعِ الإشتعالْ
يتلظَّى كلًّما اشتمّ على بُعدٍ : تعالى)
فيما برقت “وضاح المحيا” و”أمدرمان” أغنيات زادها الحسن تيهاً برغم عدم الذيوع…كما ألفت أذان الناس أغنية “شين ودشن” بواسطة عقد منضود من حبات الفن الزاهي هو عقد الجلاد…وعبرها رسم صلاح صورة مونقة للشخصية السودانية.
(في الزنقة أم لوم قدام باينين
البسمع فيهم يا أبو مروة
بي فرارة ينط من جوه
يبادر ليك من غير تأخير
دا اخو الواقفة يعشى الضيف
الحافظ ديمه حقوق الغير
سيد الماعون السالي السيف
الهدمه مترب وقلبه نظيف)
استطاع صلاح احمد إبراهيم أن ينفذ إلي أعماق جمالية ما لها قرار..مستخدماً الرموز الإغريقية ومقتبسا من القرآن وتأريخ الإسلام؛في مجاميع أدبية تصخب بالألحان التي تضج في صماخ الأذن.
(ومددت كفي بالسلام
لكن كفك في الطريق ترددت
وتعثرت
وامتد في عينيك ظل توجس
وكأنما كفي حرام
وكأنما قتلت حسيناً ، أو رمت
بالمنجنيق قداسة البيت الحرام)
تلك معان حملتها أجنحة الإنسانية والحب والوطنية..فكان صلاح الشاعر المهموم بقضايا أمته السودانية…وحده من رسم على ذاكرة الأدب جرح التأريخ النازف بعنبر جودة…حينها إستمطر المآقي دمعاً بقصيدة وثقت لحظات أسيفة من زمان مضى .
(لو أنهم فراخ تصنع من أوراكها الحساء.. لنزلاء الفندق الكبير,لوضعوا في قفص لا يمنع الهواء..وقدم لهم الحب والماء..
لو أنهم..ما تركوا ظماء..
ما تركوا يصادمون بعضهم لنفس الهواء..وهم يجرجرون فوق جثث الصحاب بالخطوة العشواء).
أفريقيا ظلت دوما بخاطرة صلاح أحمد إبراهيم , تشهد على ذلك اللوممبيات من قصائده والكثير من مفرداته التي عالج بها قضايا الهوية وصدق الانتماء للقارة السمراء.
(تفتحت حقيقة سمراء في أحشاء كل أم ولد منهن، من بنات جدك، مما بذرته نطف الأعراب
فكان منها الفور والفونج، وكل سحنة فاحمة
وشفة غليظة وشعر مفلفل ذر على إهاب.. حقيقة عارية كالفيل كالتمساح كالمنيف فوق كسلا سليطة الجواب
كذاب الذي يقول في السودان إنني النقي العرق، إنني المحض أجل كذاب).
وقريبا من ذلك خطرت البرجوازية الصغيرة بمعية فتى أم درمان وعشوقها علي المك مجموعة قصصية تلامس واقع البلاد وتناطح سماواتها صدقا والقاً..جمالا.. وانفعالا… إنفعالاً ليس بزغاريد حماقة..وحينما حامت المنايا حول صديقه وتخطفته يد المنون,رثاه بأبيات دامعات فارقات في عوالم الرثاء والفجيعة.
(على! يا أخي، يا شقيقي
على، شريك النضال، على رفيقي
ويا خندقي في الحصار، يا فرجي وقت ضيقي ويا صرة الزاد تمسكني في اغتماض الطريق
ويا ركوتي كعكعت في لهاتي وقد جف ريقي
على .. زراعي اليمين، على خريفي
ونيلي، وجرفي، وبهجة ريفي
“على” تتمة كيفي، وسترى في أقربائي وضيفي
“على” إنطراحة وجهي في الاكتئاب).
ما بين الدبلوماسية والأدب مشى شاعرنا صلاح أحمد إبراهيم؛خطاه على دروب الزمان..منسربا بين دهاليز النضال..مستشرفا فجر الحرية…عبر قواف أضأت أرخبيل الشعر المظلم و أطارت خفافيشه المتطايرة… قواف محمولة على أجنحة الإنسانية الصادقة الإنفعال وتلك حالة تلبسته وتلبسها فلم تحل بينهما منافية اللزجة وأرتحالاته غرباً بإتجاه الشرق .
(هل يوما ذقت الجوع مع الغربة؟؟
والنوم على الأرض الرطبه؟
الأرض العارية الصلبه..
تتوسد ثني الساعد في البرد الملعون..
أنى طرفت تثير شكوك عيون..
تتسمع همس القوم,ترى غمز النسوان..
تتحمل لون إهاب كالسبه..
تتلوى في جنبيك أحاسيس الإنسان..
تصيح بقلب مختنق غصان:
وآذل الأسود في الغربة..
في بلد مقياس الناس بها الألوان).
كثير من التجاريب وعميق من الرؤى شكلت عوالم صلاح أحمد إبراهيم القصصية والشعرية والنقدية , ولم تزل تمشي بين الناس برغم انفصال الجمر عن صندل الشعر برحيله الفاجع في العام 1993م .
(في غد يعرف القادمون..
أي حب قد حملناه لهم..
في غد يحسب فيهم حاسبون..
كم أياد قدمت منا لهم..
في غد يحكون عن أناتنا..
وعن الآلام في ابياتنا..
وعن الجرح الذي غنى لهم..
كل جرح في حنايانا يهون..
حين يغدو علما يبدولهم..
جرحنا دام ونحن الصامتون..
حزننا جم ونحن الصابرون..
فأبطشي ما شئت فينا يامنون.
صلاح احمد إبراهيم …عليك الرحمة…فقد غربت شمس ولم يزل بدر البلاد عنها يخبر…وتلاشت زهور وهي في العطر تعيش).