إيمان كمال الدين تكتب : الرِّحلةُ الدّاخليّةُ

الرِّحلةُ الدّاخليّةُ
إيمان كمال الدين
في الوَقت الذي كُنت قد بَدأت فيه رحلتي مع نفسي، استكشاف، بَحثٍ، احتواء والأهمَّ بالنِّسبة لي كان هو التقبُّل، فاجأتني صديقةٌ غيّبها الزّمن بسُؤالٍ على قَدر تعقيده، لكنهُ لخّص بالنسبة لي أزمتنا في الحياة، أو فلنقل بشكلٍ أدق أزمتنا مع أنفسنا، لكنّنا نُحِيلها إلى ساحاتٍ أُخرى، أحيانًا لقِلّة الإدرَاك والوعي، أو هرباً من المُواجهة، ليس هرباً من مُواجهة الحَياة أو الآخرين، بل هرباً من أنفسنَا؟
وَلَكن هل يستطيعُ المُرء منا أن يَهرب مِن نفسه؟
لطالما نفعلُ ذلك ليلازمنَا حتّى الممات شُعُور الرّكض المحمُوم بلا انتهاء
كان السُّؤال: أين يَذهب الإنسان حين تَضيقُ به الحياة وترفضهُ نفسهُ ويتخلّى عنهُ المكان ويرحلُ عنهُ رفاقُ السّفر؟
حين ترفضهُ نفسهُ؟ الرِّحلة تبدأ من الدّاخل / هُنا البدايةُ
في رحلتي، أنا لا أعتقد أن المُرء منا ترفضهُ نفسه، بل نفقدُ أدوات التّعامُل مع أنفسنا وننشغل بالعالم والآخرين قبل أن نجد طريقاً للتّصالح مع دواخلنا.
الرِّحلةُ الدّاخليّةُ، أي رحلةَ المَرءِ مع نفسهِ وما يُعاني مِن مَاضٌ وآلامٍ، حينَ يَشعرُ بالوحدةٍ وحوله كثيرونَ أو تنتابَهُ رغبةٌ عميقةٌ بالبكاءِ، البعضُ يُفكِّرُ بالانتحار، وآخرون كَانوا تَجاوزوا التّفكير ورَحَلُوا عَنّا.
ماذا لو وَجَد الواحد منهم مَن يستمع لآلامه، ضعفهِ، وشَاركهُ البُكاء؟
أدرك أنّ مُواجهة النّفس من الصُّعوبة بمكان، أنَا شخصيًا شعرتُ بالخَوف، حيثُ مَضَى وقتٌ طويلٌ لم أوَاجِه نفسي، عثراتِي، حُطَامي وانكِسَاراتي، لم أرمِّم شيئًا، وتَسَاءلت بيني وبين نفسي؟ عن ما يَلزمني، ولَم أدركْ أنّي حينَ بدأت بالتّساؤل كُنتُ قد بدأتَ السَّيرَ في الطَريق.
هَل تَرفضنا أنفسنا؟ نحنُ المحورُ، نحنُ النّواةُ، لذا حِينَ يَتَبادرَ إلينَا هَذا الإحساسُ نشعرُ بضيق الحياة وضيقِ المكان رغم السِّعَة.
وعِندما نُقرِّر أن نُواجه مَا بداخِلنا من تراكُمات، سنكتشِفَ الكَثير، وأعتقد أنّنا بحاجةٍ إلى رفيقٍ في هذه الرِّحلة، صديق أو حتى غُرباءَ عَابِري سَبيلٍ، وإن لم يكُن ثمة أحَد، أعتقد أنّنا نَستطيعُ أن نَمضِي في الطريق، ويُمكن للمرءِ أن يَستعينَ بمُرشدٍ نفسِي لا ضَيرَ في ذلكَ، هَذه أحد أدَوَاتَ الوَعي.
يَلزمنا أيضًا الوَعي لما سَنواجهُهُ حتّى لا نُكرِّر السَّيرَ في ذاتِ الطَريقِ مرّةً تلو مرّةٍ، ولنجدَ طريقنَا للتصالُحِ والمُضِي قُدُماً.
كَيف سَتتعامَل مع مَاضِيكَ، ذِكرياتِكَ، مَعَ مَن عَجزتَ عَن مَنحهم الغُفرانَ؟ هذا جزءٌ مِمّا ستُواجهُهُ في داخلكَ إنْ لم تَتَجَاوَز هذه القُيودِ مِن قَبل.
كَيف ستشعر باليَقينِ والرضاءِ ومن ثَمّ التّسليمِ؟ مَا هُو الأصيلُ في داخِلكِ، ومَا هُو الزّائفُ؟
مَا هي القُيُودُ التي تُكبِّلكَ؟ قُيود مُجتمعٍ، أُسرةٍ، أو سُلطةٍ حاكمةٍ، أو حتّى ماضٍ تَرفض التّصالُحَ معهُ؟
عليّ أن أقُولَ إنّهُ كُلَّ مَا غِرقنَا في دواخلنَا كُلّ مَا وَجَدنَا سِعَةّ.
يُمكننا أن نَنظرَ لآلامٍ على أنّها حياة، نَعم حياة، ستقُولُ لي كَيف ذلك؟
قَالَ أحدهُم من قبل: إنّ العَين التي لا تبكي لا تُبصِرُ من الوَاقع شَيئاً.
يُمكن للألم أن يُحيينا، إحياءً لمشاعركَ كإنسان يُشارك في مُحيطهِ نَشْر المَحَبّة والمَغفرة والأمَل، ولا بأس إن شَعرنَا بالعَجز، وأعتقد أنّ كلَّ من يبدأ يستطيعُ في طريقه للوصُول إلى نَفسِه، أن يجد الغُفران.
وتَحضرني هُنا مَقولَة للرِّوائي سُعود السّنعوسي حين قَال: نحنُ لا نُكافئَ الآخرين بغفراننا ذُنوبهِم، نحنُ نُكافئْ أنفسنا ونتطهّر من الدَّاخِل
أصدقَائي: ماذا لو نظر المَرءُ مِنّا إلى دواخلهِ، واستشعرَ في لحظةٍ ما أنّ الله نَفخَ فيه من رُوحه؟ أيّ طاقةٍ يُمكن أن نشعرُ بها؟ بل أيّ عظمةٍ وأيّ جمالٍ يمُكن أن نَراه فينا؟
لذا وإجابةً على سؤال صديقتي من وحي رحلتي الداخليُةِ، أين يذهب الإنسان حين تضيقُ به الحياةُ وترفُضه نفسهُ ويتخلّى عنهُ المَكانُ ويرحلُ عنهُ رِفاقُ السّفر؟
الرِّحلةُ تبدأ من الدّاخل، تتّسع الحياةُ حينها، لا يَضيقُ المكانُ، كل الأمكنة دَاركَ، بَيتكَ ومَلاذك
هَل يَرحَل رِفاق السَّفر؟ لا ، لا يَرحَلونَ، ففي كلُ طريقٍ رفيقٌ
أتمنّى أن تتّسع نفُوسنا، ولا تضيقُ بكم حياةٌ ولا مكانٌ ولا قلب